الخميس، 22 يوليو 2021

ج2.. أهوال القبور للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله

 

ج2.. أهوال القبور للحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله

260- وخرج ابن أبي الدنيا من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن أبي كبشة عن أبيه عن جده قال : لما مات بشر بن البراء بن معرور وجدت عليه أم بشر وجداً شديداً ، فقالت : يا رسول الله لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة فهل يتعارف الموتى ، فأرسل إلى بشر بالسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده يا أم بشر إنهم ليتعارفون كما تتعارف الطير في رؤوس الشجر " وكان لا يهلك هالك من بني سلمة إلا جاءت أم بشر ، فتقول : اقرأ على بشر السلام .
الباب الثامن
فيما ورد من سماع الموتى كلام الاحياء ، ومعرفتهم بمن يسأل عليهم ، ويزورهم ومعرفتهم بحالهم بعد الموت ، وحال أقاربهم في الدنيا

261- أما سماع الموتى لكلام الأحياء ففي الصحيحين عن أنس عن [ أبي ]طلحة قال لما كان يوم بدر وظهر عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين - وفي رواية أربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فألقوا في طوى من أطواء بدر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فإني وجدت ما وعد ربي حقاً " فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح فيها فقال : " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وفي صحيح مسلم من حديث أنس نحوه من غير ذكر [ أبي ] طلحة ، وفي حديثه قال "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " وفيه أيضاً عن أنس ، عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة بمعناها .

262- وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال وجدتم ما وعد ربكم حقاً قيل له : أتدعو أمواتاً ؟ قال : " ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون " ! وفي رواية قال : " إنهم الآن يسمعون ما أقول " .
263-
وقد أنكرت عائشة ذلك كما في الصحيحين عن عروة عن عائشة انها قالت: قال رسول الله عليه وسلم : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " وقد وهم - يعني ابن عمر-قال : إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم إنه حق ثم قرأت قوله { إنك لا تسمع الموتى } ، {وما أنت بمسمع من في القبور } .
وقد وافق عائشة على نفي الموتى كلام الأحياء طائفة من العلماء ورجحه القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب الجامع الكبير له واحتجوا بما احتجت به عائشة ، وبأنه يجوز أن يكون ذلك معجزة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره ، وهو سماع الموتى كلامه.
264-
وفي صحيح البخاري قال قتادة : أحياهم الله تعالى [ يعني أهل القليب ] حتى أسمعهم قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً .

وذهب طوائف من أهل العلم وهم الأكثرون وهو اختيار الطبري وغيره - يعني بالطبري ابن جرير - وكذلك ذكره ابن قتيبة وغيره من العلماء ، وهؤلاء يحتجون بحديث القليب ، كما سبق ، وليس هو بوهم ممن رواه ، فإن ابن عمر وأبا طلحة وغيرهما ممن شهد القصة حكياه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
265-
وعائشة لم تشهد ذلك وروايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق " يؤيد رواية من روى : إنهم ليسمعون ، ولا ينافيه ، فإن الميت إذا جاز أن يعلم جاز أن يسمع ، لأن الموت ينافي العلم كما ينافي السمع والبصر ، فلو كان مانعاً من البعض لكان مانعاً من الجميع .
266-
وروى أبو الشيخ الأصبهاني يإسناده عن عبيد بن مرزوق قال : كانت امرأة بالمدينة يقال لها أم محجن تقم المسجد ، فقال : " التي كانت تقم المسجد ؟ " قالوا : نعم ، فصف الناس فصلى عليها ، ثم قال : " أي العمل وجدت أفضل " قالوا : يا رسول الله أتسمع ؟ قال : " ما أنتم بأسمع منها " ، فذكر أنها أجابته : قم االمسجد وهذا مرسل . وأما أن ذلك خاص بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فليس كذلك ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم " وقد سبق ذكره ، وسنذكر الأحاديث الواردة بسماع الموتى سلام من يسلم عليهم فيما بعد ، إن شاء الله .

وأما قوله : { إنك لا تسمع الموتى } وقوله { وما أنت بمسمع من في القبور } فإن السماع يطلق ويراد به إدراك الكلام وفهمه ، ويراد به أيضاً الانتفاع به والاستجابة له . والمراد بهذه الآيات نفي الثاني دون الأول ، فإن ها في سياق خطاب الكفار الذين لا يستجيبون للهدى ولا للإيمان إذا دعوا إليه كما قال الله تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها [ ولهم آذان لا يسمعون بها ] } الآية في نفي السماع والإبصار عنهم لأن الشيء قد ينفى لانتفاء فائدته وثمرته فإذا لم ينتفع المرء بما يسمعه ويبصره فكأنه لم يسمع ولم يبصر ، وسماع الموتى هو بهذه المثابة ، وكذلك سماع الكفار لمن دعاهم إلى الإيمان والهدى . وقول قتادة في أهل القليب : أحياهم الله حتى أسمعهم ، يدل على أن الميت لا يسمع القول إلا بعد إعادة الروح إلى جسده : وبذلك قال طوائف كثيرة من السلف لأنه لا يسأل في قبره إلا بعد إعادة الروح إلى جسده ، كما جاء ذلك مصرحاً به في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم الطويل ، وقد سبق ذكر بعضه وفيه في حق الكافر " وتعاد روحه في جسده " .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث الأعمش عن المنهال عن زاذان عن البراء في حق المؤمن والكافر في كل منهما قال : " وتعاد روحه في جسده " وكذلك عند ابن منده إعادتها إلى جسده عند ضرب الملك له بعد أن يضربه فيصير تراباً من رواية يونس بن خباب عن المنهال ، وقد سبق ذلك كله .
267-
وخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة قبض الروح والمساءلة وقال في روح الكافر : " فتصير إلى القبر " وقد سبق أيضاً .
268-
وخرج ابن منده بإسناده ضعيف جداً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة قبض الروح ، وفيه قال : " فيهبطون به يعني الروح على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه " . وهذا لا يثبت .
269-
وخرج الخلال في كتاب " شرح السنة " من طريق أبي هاشم عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : إن للمؤمن إذا نزل به الموت جاءه ملك الموت يناديه يا روح طيبة أخرجي من الجسد الطيب ، فإذا خرجت روحه لفت في خرقه حمراء ، فإذا غسل وكفن ، وحمل على السرير تحولت حتى يوضع في قبره فإذا وضع في قبره أجلس وجيء بالروح فجعلت فيه ، فقيل له : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له : صدقت فيوسع له في قبره مد البصر، ثم ترفع روحه فتجعل في أعلى عليين ، ثم تلا عبد الله هذه الآية { إن كتاب الأبرار لفي عليين } .
270-
وخرج ابن أبي الدنيا من طريق سالم بن أبي الجعد قال : قال حذيفة : الروح بيد ملك ، وإن الجسد ليغسل ، وإن الملك ليمشي معه إلى القبر ، فإذا سوي عليه سلك فيه ، وذلك حين يخاطب .
271-
ومن طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : الروح بيد ملك يمشي مع الجنازة يقول : أسمع ما يقال لك فإذا بلغ حفرته دفن معه .
272-
ومن طريق داود العطار عن أبي نجيح قال : ما من ميت يموت إلا وروحه بيد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل ويكفن ، ويمشي به إلى قبره ثم تعاد إليه روحه ، فيجلس في قبره . وكذلك قال أبو صالح وغيره من السلف في قوله تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم إليه ترجعون } فدل على أن الحياة الأولى هي القبر للسؤال , وإن كان الأكثرون خالفوا في ذلك فهؤلاء السلف كلهم صرحوا بان الروح تعاد إلى البدن عند السؤال ؛ وصرح بمثل ذلك طرائف من الفقهاء والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم كقاضي أبى يعلى وغيره , وأنكر ذلك طائفة ابن حزم وغيره , وذكر أن السؤال للروح خاصة , وكذلك سماع الخطاب , وأنكر ألا تعاد الروح إلى الجسد في القبر للعذاب وغيره , وقالوا لو كان ذلك حقا للزم الإنسان أن يموت ثلاثة مرات ويحيى ثلاث مرات , والقرآن دل على أنهما موتتان وحياتان , وهذا ضعيف جداً ، فإن حياة الروح ليست حياة تامة مستقلةكحياة الدنيا وكالحياة الآخرة بعد البعث ، وإنما فيها نوع اتصال الروح في البدن بحيث يحصل بذلك شعور البدن وإحساس بالنعيم والعذاب وغيرهما وليس هو حياة تامة حتى يكون انفصال الروح به موتا تاماً وإنما هو شبيه بانفصال روح النائم عنه ورجوعها إليه فإن ذلك يسمى موتاً وحياة .
273-
كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ : " الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا ، وإليه النشور " وسماه الله تعالى وفاة لقوله : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } الآية ومع هذا فلا ينافي ذلك أن يكون النائم حياً ، وكذلك اتصال روح الميت ببدنه وانفصالها عنه لا توجب أن يصير حياًّ حياة مطلقة وممن رجح هذا القول - أعني السؤال والنعيم والعذاب للروح خاصة - من أصحابنا ابن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي في بعض تصانيفهما واستدل ابن عقيل بأن أرواح المؤمنين تنعم في حواصل طير خضر ، وأرواح الكفار في حواصل طير سود ، وهذه الأجساد تبلى فدل ذلك على أن الأرواح تنعم وتعذب في أجساد أخر ، وهذا لا حجة فيه لأنه لا ينافي اتصال الروح ببدنه أحياناً مع فناءه واستحالته . وتستدل طائفة ممن ذهب إلى هذا القول بما .
( 274 )
روي منصور بن عبد الرحمن عن أمه قال : دخل ابن عمر المسجد وابن الزبير قد قتل وصلب فقيل له : هذه أسماء بنت أبي بكر في المسجد فقال لها : اصبري فإن هذه الجثة ليست بشيء وإنما الأرواح عند الله . فقالت : وما يمنعني من الصبر وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل .
275-
وروى ابن أبي الدنيا من طريق ابن عمر صاحب السفلي قال : نزل ابن عمر إلى جانب قبور دارسة فنظر إلى قبر منها ، فإذا هو بجمجمة بادية ، فأمر رجلاً فواراها ، قال : إن هذه الأبدان ليس يضرها الثرى شيئاً ، وإنما الأرواح التي تعاقب وتثاب إلى يوم القيامة .
276-
وروى محمد بن سعد عن الواقدي حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال : لما انهزمت الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان فجعلت الروم تقاتل عليه ، فتقدم هشام بن العاص فقاتلهم حتى قتل ووقع على تلك الثلمة فسدها ، فلما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يوطؤه الخيل فقال عمر بن العاص إن الله قد استشهده ورفع روحه وإنما هو جثة فأوطئوه الخيل ، ثم أوطأه وتبعه الناس حتى قطعوه . وهذه الآثار لا تدل على أن الرواح لا تتصل بالأبدان بعد الموت إنما تدل على أن الأجساد لا تتضرر بما ينالها من عذاب الدنيا ، وإنما هو من نوع آخر يصل إلى الميت بمشيئة الله وقدرته وقولهم : الأرواح عند الله تعالى تعاقب وتثاب لا ينافي أن تتصل بالبدن أحياناً فيحصل بذلك إلى الجسد نعيم أو عذاب ، وقد تستقل الروح أحياناً بالنعيم والعذاب أما عند إستحالة الجسد أو قبل ذلك ، وقد أثبت طائفة أخرى النعيم والعذاب للجسد بمجرده من غير اتصال الروح له ، وممن ذكر ذلك من أصحابنا : ابن عقيل في كتاب الإرشاد ، وابن الزاغوني وحكي عن ابن جرير الطبري أيضاً ، وذكر القاضي أبو يعلى أنه ظاهر كلام الإمام أحمد فإنه قال في رواية حنبل : أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار ، والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ، ويرحم من يشاء منها بعفوه . قال القاضي : ظاهر هذا إن الأرواح تعذب وتنعم على الإنفراد ، وكذلك الأبدان إذا كانت باقية أدى إلى الأجزاء التي استحالت ، قال : ولا يمنع أن يخلق في الأبدان إدراك تحس به النعيم والعذاب ، كما خلق في الجبل لما تجلى له ربه ثم جعله دكاً. وقال القاضي أبو الحسين : ولأنه لما لم يستحل نطق الذراع المسموم ، ولم يستحل عذاب الجسد البالي وإيصال العذاب إليه بقدرة الله تعالى . وقد يستدل لهذا بأن عمر بن الخطاب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم كلم أهل القليب : كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها ؟ فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، وإنما قال : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " فدل على أن سماعهم حصل على أجساد لا أرواح فيها . وقد دل القرآن على سجود الجمادات وتسبيحها لله تعالى وخشوعها له ، فدل على أن فيها حياة تحييها وإدراكاً فلا يمنع مثل ذلك في جسد ابن آدم بعد مفارقة الروح له ، والله أعلم ، ويدل على ذلك ما أخبر الله من شهادة الجلود والأعضاء يوم القيامة . وما روي عن ابن عباس في اختصام الروح والجسد يوم القيامة فإنه يدل على أن الجسد يخاصم الروح ويكلمها وتكلمه ، ومما يدل على وقوع العذاب على الأجساد الأحاديث الكثيرة في تضييق القبر على الميت حتى تختلف أضلاعه ، ولأنه لو كان العذاب على الروح خاصة لم يختص العذاب بالقبر ولم ينسب إليه .
فصل
277-
وأما معرفة الموتى بمن يزورهم ويسلم عليهم فروى محمد بن الأشعث عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال أبو رزين : يا رسول الله إن طريقي على الموتى فهل من كلام أتكلم به إذا مررت عليهم ؟ قال : " قل السلام عليكم يا أهل القبور من المسلمين والمؤمنين ، أنتم لنا سلف ، ونحن لكم تبع ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " قال أبو رزين : يا رسول الله يسمعون ؟ قال : " يسمعون ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا " قال : " يا أبا رزين ألا ترضى أن يرد عليك من الملائكة " خرجه العقيلي وقال : لا يعرف هذا اللفظ إلا بهذا الإسناد ، ومحمد بن الأشعث مجهول في النسب والرواية ، وحديثه غير محفوظ .
278-
وروى الربيع بن سليمان المؤذن حدثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد الله بن عمير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه ويلم : " ما من أحد يمر على قبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " خرجه ابن عبد البر ، وقال عبد الحق الإشبيلي : إسناده صحيح ، يشير إلى أن رواته كلهم ثقات ، وهو كذلك ، إلا أنه غريب بل منكر .
279-
وقد روى عبد الأعلى بن عبد الله بن فروة عن قطن بن وهب عن عبيد بن عمير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف على مصعب بن عمير حين رجع من أحد ، فوقف عليه وعلى أصحابه فقال : " أشهد أنكم أحياء عند الله فزوروهم وسلموا عليهم فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة " خرجه البهيقي والحاكم وصححه ، ورواه عمرو بن صهبان عن معاذ بن عبد الله عن قطن بن وهب عن عبيد بن عبيد مرسلاً ، ورواه يحيى بن العلاء عن عبد الأعلى بن أبي فروة عن قطن بن وهب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم خرجه الطبراني ، وذكر ابن عمر فيه وهم ، وروي عن عبيد بن عمير عن أبي ذر ولعل المرسل أشبه ، وبالجملة أشبه ، وبالجملة فهذا إسناد مضطرب ، ومتنه مختص بالشهداء وهذا أشبه من حديث بشر بن بكر .
280-
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من عبد يمر على قبر رجل مسلم يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام " عبد الرحمن بن زيد فيه ضعف وقد خولف في إسناده .
281-
وفي رواية هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي هريرة موقوفاًٍ ، وزاد فيه : " وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام " .
282-
ورواه عبد الله عن ابن سمعان - وهو متروك - عن زيد بن أسلم عن وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس ورد عليه حتى يقوم " خرجهما ابن أبي الدنيا في كتاب القبور .
وخرج في كتاب من عاش بعد الموت من رواية عطاء بن خالد حدثتني خالتي قالت : ركبت يوماً إلى قبور الشهداء فنزلت عند قبر حمزة رضي الله عنه وما في الوادي داع ولا مجيب يتحرك إلا غلاماً قائماً آخذاً برأس دابتي ، فلما فرغت من صلاتي قلت بيدي هكذا : سلام عليكم فسمعت رد السلام يخرج علي من تحت الأرض أعرفه كما أعرف أن الله خلقني ، وكما أعرف الليل من النهار فاقشعرت كل شعرة مني .
282-
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شماسة المهري : أن عمرو بن العاص لما حضره الموت قال في وصيته : إذا دفنتموني فسنوا على التراب سناً ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي .
284
وروى ابن أبي الدنيا من طريق مسمع بن عاصم قال : رأيت عاصماً الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت : هل تعلمون بزيارتنا إياكم قال : نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس ، قلت : وكيف دون الأيام كلها ؟ قال : بفضل يوم الجمعة وعظمته .
285-
ومن طريق حسن القصاب قال : كنت أغدو مع محمد بن واسع كل غداة سبت حتى نأتي الجبان ، ثم يأتي القبور فيسلم عليهم ويدعو لهم فينصرف فقلت له : لو صيرت هذا اليوم يوم الإثنين ؟ فقال إن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده . وبإسناد فيه ضعف عن الضحاك : من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته ، قيل : له و كيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة .
286-
وبإسناد صحيح عن أبي التياح قال : كان مطرف يبدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج قال : فأقبل حتى إذا كان عند المقابر هوم على فرسه فرأى كأن أهل القبور كل صاحب قبر جالس على قبره فقالوا : هذا مطرف يأتي يوم الجمعة فقلت : تعلمون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما تقول فيه الطير . قال : قلت : وما تقول فيه الطير ؟ قال : يقولون : سلام سلام يوم صالح .
287-
قال ابن أبي الدنيا : وحدثني إبراهيم بن سيار الكوفي حدثني لفضل بن الموفق قال : كنت آتي قبر أبي كثير قال : فشهدت جنازة فلما قبر صاحبها تعجلت لي حاجة ولم آت قبر أبي قال : فرأيته في النوم ، فقال : يا بني لم لم تأتني ؟ فقلت : يا أبت فإنك لتعلم بي . قال : إي والله ، إنك لتأتيني فما أزال أنظر إليك من حين تطلع من القنطرة حتى تقعد إلي وتقوم من عندي فما أزال أنظر إليك حتى تجوز القنطرة .
288-
قال : وحدثني إبراهيم بن سيار حدثنا أبو المشيد قال : قالت تماضر بنت سهل امرأة أيوب بن عبيد جاءتني ابنة سفيان بن عيينة فقالت : أين عمي أيوب ؟ قلت : في المسجد ، فلم ألبث أن جاءت فقالت لي : يا عمي رأيت أبي سفيان في النوم فقال : جزى الله أخي أيوب عني خيراً فإنه يزورني كثيراً ، وقد كان عندي اليوم ، فقال أيوب : نعم ، حضرت جنازة اليوم ، فذهت إلى قبره .
289-
حدثنا محمد بن الحسين حدثنا يحيى بن أبي بكر حدثني الفضل بن موفق ابن خال سفيان بن عيينة قال : لما مات أبي جزعت عليه جزعاً شديداً ، فكنت آتي قبره كل يوم ثم إني قصرت من ذلك ما شاء الله ثم إني أتيته يوماً فبينما أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت ، فرأيت كأن قبر أبي انفجر ، وكأنه قاعد في قبره متوشح بأكفانه عليه سحنة الموتى . قال : فبكيت لما رأيته ، فقال : يا بني ما أبطأ بك عني ؟ قال : قلت : وإنك لتعلم بمجيئي ؟ قال لي : ما جئت من مرة إلا علمتها ، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك . قال : فكنت آتيه بعد كثيراً .
290-
قال : وحدثني محمد بن بسطام حدثني عثمان بن سودة الطفاوي وكانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة ، فماتت ، فكن
ت آتيها كل جمعة فأدعو لها واستغفر لها ولأهل القبور قال : فرأيتها ذات ليلة في منامي ، فقلت لها : يا أماه كيف أنت ؟ فقالت : يا بني إن للموت كربة شديدة ، وإنا بحمد الله تعالى لفي برزخ محمود ، يفرش فيه الريحان ويوسد فيه السندس والإستبرق إلى يوم النشور . فقلت : ألك حاجة ؟ فقالت : نعم ، قلت : وما هي ؟ قالت : لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا ، والدعاء لنا ، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك ، فيقال : يا راهبة ، هذا ابنك قد أقبل ، فأسر بذلك ، ويسر من حولي من الأموات .
291-
وقال الحافظ أبو الطاهر السلفي : سمعت أبا البركات عبد الواحد بن عبد الرحمن بن غلاب السوسي بالإسكندرية يقول : يا بنتي إذا جئتيني زائرة فاقعدي عند قبري ساعة أتملى من النظر إليك ، ثم ترحمي علي ، فإذا ترحمت علي صارت الرحمة بيني وبينك كالحجاب ثم شغلتني عنك .
292-
قلت : وأنبأني علي بن عبد الصمد بن أحمد البغدادي عن أبيه قال : أخبرني قسطنطين بن عبد الله الرومي قال : سمعت الأسد بن موسى قال : كان لي صديق فمات ، فرأيته في النوم وهو يقول لي : سبحان الله جئت إلى قبر فلان صديقك قرأت عنده وترحمت عليه ، وأنا ما جئت إلي ولا قربتني ، قلت له : وما يدريك ؟ قال : لما جئت إلى قبر فلان صديقك رأيتك . قلت : كيف رأيتني والتراب عليك ؟ قال : أما رأيت الماء إذا كان في الزجاج أما يتبين ؟ قال : كذلك نحن نرى من يزورنا .
فصل
293-
وأما معرفة الموتى بحالهم في الدنيا قبل الدفن فروى سعيد بن عمرو بن سليم قال : سمعت رجلاً منا يقال له : معاوية بن فلان أو ابن معاوية قال : سمعت أبا سعيد الخدري يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يعرف من يغسله ومن يكفنه ومن يحمله ومن يدليه في قبره : فقال ابن عمر وهو في المجلس : ممن سمعت هذا ؟ قال من أبي سعيد الخدري فقام ابن عمر إلى أبي سعيد الخدري فقال : ممن سمعت هذا ؟ قال : من رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الإمام أحمد.
294-
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب المنامات بإسناده عن سالم بن أبي الجعد قال : قال حذيفة : الروح بيد ملك وإن الجسد ليغسل وإن الملك ليمشي معه إلى القبر .
295-
وبإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : الروح بيد ملك يمشي مع الجنازة يقال له : اسمع ما يقال لك ، فإذا بلغ حفرته دفنه معه .
296-
وبإسناده عن مجاهد : إذا مات الميت فملك قابض نفسه فما من شيء إلا وهو يراه عند غسله وعند حمله حتى يصل إلى قبره .
297-
وبإسناده عن بكر المزني قال : بلغني أنه ما من ميت إلا وروحه بيد ملك الموت ، فهم يغسلونه ويكفنونه وهو يرى ما يصنع أهله فلو أنه يقدر على الكلام لنهاهم عن الرنة والعويل .
298-
وعن ابن السماك . قال سمعت سفيان يقول : إنه ليعرف كل شيء - يعني الميت - وإنه ليناشد غاسله بالله ألا خففت غسلي .
299-
وعن السماك قال : غسل سفيان الثوريي أبي ، فلما غسله قال : إنه الآن يرى ما يصنع به قال : حدثني أبو إسحاق الأودى ، ومات ابن له ، وكان ناسكاً قال : أخبرنا بعض أصحابنا قال : رأيته في النوم ، فقال : ألم تر إلى ما ظهر من جميل الستر وحسن الثناء في الجنازة . قال : قالت : فقد علمت ذلك قال ما غاب عني منه شيء أو نحو هذا . وروى في كتاب القبور بإسناده عن بكر المزني قال : حدثت أن الميت ليستبشر بتعجيله إلى المقابر . وأن أهله ليغسلونه ويكفنونه وإن روحه لترى ما يصنعون به ، ثم سبقت بكراً عبرته .
300-
وبإسناده عن ابن أبي نجيح قال : ما من ميت يموت إلا روحه في يد ملك ينظر إلى جسده كيف يغسل ويكفن وكيف يمشي به إلى قبره .
301-
وعن سفيان الثوري قال : يقال له وهو على سريره : اسمع ثناء الناس عليك .
302-
وعن عمرو بن دينار قال : ما من ميت يموت إلا وهو يعلم ما يكون في أهله بعد وإنه يغسلونه ويكفنونه وإنه لينظر إليهم .
فصل
303-
وأما معرفة الموتى في قبورهم بحال أهليهم وأقاربهم في الدنيا فروى ابن أبي الدنيا في أول كتاب المنامات : حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أبو بكر بن شيبة الحزامي حدثنا فليح بن إسماعيل حدثنا محمد بن جعفر عن أبي كثير عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه وسلم : " لا تفضحوا أقاربكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور ".
304-
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عمن سمع أنساً يقول : قال رسول الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم فإن كان خيراً استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا " .
305-
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم في قبورهم فإن كان خيراً استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك " .
306-
وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق يحيى بن صالح الويحاضي حدثنا إسماعيل السكري سمعت مالك بن أنس يقول : سمعت النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوها ، فالله الله في إخوانكم من أهل القبور ، فإن أعمالكم تعرض عليهم " .
307-
ومن طريق المبارك عن ثور بن يزيد عن أبي رهم عن أبي أيوب قال : تعرض أعمالكم على الموتى ، فإن رأوا حسناً فرحوا واستبشروا وقالوا : اللهم فهذه نعمتك على عبدك فأتمها عليه ، وإن رأوا سيئة قالوا : اللهم راجع به .
308-
ومن طريق المبارك أيضاً عن صفوان بن عمير عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أن أبا الدرداء كان يقول : إن أعمالكم تعرض على أمواتكم فيسرون ويساءون .
309-
وكان أبو الدرداء يقول عند ذلك : اللهم إني أعوذ بك أن أعمل عملاً أخزى به عند عبد الله بن رواحه .
310-
ومن طريق بلال بن أبي الدرداء قال : كنت أسمع أبا الدرداء وهو ساجد يقول : اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي ابن رواحه إذا لقيته .
311-
وقال في كتاب القبور : بلغني عن أحمد بن أبي الحواري قال : حدثني محمد بن أخي قال : دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو أمير على فلسطين فقال له : ما أعظك أصلحك الله ، بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى فانظر ماذا يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمك ، قال : فبكى إبراهيم حتى سالت دموعه على لحيته .
312-
وروى ابن المبارك بإسناده عن سعيد بن جبير : أنه سئل هل يأتي الموتى أخبار الأحياء ؟ قال : نعم ما من أحد له حميم إلا ويأتيه أخبار أقاربه ، فإن كان خيراً سر به ، وإن كان شراً ابتأس وحزن حتى إنهم ليسأون عن الرجل قد مات فيقال : ألم يأتكم ؟ فيقولون : لا ، قد خولف به إلى أمه الهاوية .
313-
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء بإسناده عن عبيد بن سعد عن أبي أيوب الأنصاري قال : غزونا حتى انتهينا إلى القسطنطينية فإذا قاص يقول من عمل صالحاً من أول النهار عرض على معارفه إذا أمسى من أهل الآخرة ، ومن عمل عملاً من أول الليل عرض على معارفه إذا أصبح من أهل الآخرة . فقال له أبو أيوب : أيها القاص ما تقول ؟ فقال : والله إن ذلك كذلك . فقال : اللهم لا تفضحني عند عبادة بن الصامت ولا عند سعد فيما عملت بعدهما .
314-
وروى ابن شاهين من رواية الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عدي بن اكتار عن أبيه إن شاء الله وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظمونه . لما احتضر فقال : يا بني اذكروا الله أن تعملوا عملاً يعمر وجهي فإن عمل الأبناء يعرض على الآباء بعد ، فقال القاص : والله ما كتب الله ولايته إلا ستر عليه .
315-
أخرج البزار في مسنده : حدثنا يوسف حدثنا عبد المجيد عن عبد العزيز بن أبي رواد عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام " .
316-
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ، فما رأيت من خير حمدت الله عليه ، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم " وقال : لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا بهذا الإسناد .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعرض عليه صلاة أمته يوم الجمعة من حديث أوس وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن مسعود وأبي أمامة وأنس وغيرهم ، وأشهرها حديث أوس والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم " حياتي خير لكم " إلى آخر الكلام فقد رواه حماد بن زيد عن غالب عن بكر المزنى مرسلاً .
317-
وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين عن خالد بن عمرو القرشي حدثني صدقة بن سليمان الجعفري قال : كانت لي شرة سمجة فمات أبي فأنبت وندمت على ما فرطت ، ثم قال أيضاً زللت فرأيت أبي في المنام ، فقال أي بني ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض على فلنشبهها بأعمال الصالحين فلما كان هذه المرة استحييت حياء شديداً فلا تحزني فيمن حولي من الأموات ، قال خالد : كان بعد ذلك قد خشع وتنسك فكنت أسمعه يقول في دعائه في السحر - وكان لنا جار في الكوفة - أسألك إنابة لا رجعة فيها يا مصلح الصالحين وهادي الضالين وراحم المذنبين .
318-
روي من طريق ثابت عن شهر بن حوشب أن صعب بن جثامة وعوف بن مالك كانا متواخيين قال صعب لعوف : أي أخي أينا مات قبل صاحبه فليتراي له قال : أو يكون ذلك ؟ قال : نعم فمات صعب ، فرآه عوف فيما يرى النائم كأنه أتاه قال : فقلت له : أي أخي ما فعل بكم . قال : غفر لنا بعد المساوي . قال : ورأيت لمعة سوداء في عنقه . فقلت له : أي أخي ما هذا ؟ قال : عشرة دنانير استلفتها من فلان اليهودي ، فهي في قرني فأعطها إياه ، واعلم أخي أنه لم يحدث بأهلي حدث بعدي إلا قد لحق بي خبره حتى هرة ماتت منذ أيام ، واعلم أن إبنتي تموت لستة أيام فاستوصوا بها معروفاً فلما أصبحت قلت إن في هذا لمعلماً ، فأتيت أهله فقال : مرحباً بعوف ، هكذا تصنعون بتركة إخوانكم ، لم تقربنا منذ مات صعب . قال : فاعتللت ، فيما يعتل به الناس قال : فنظرت إلى القرن فانتشلت ما فيه ، فبدرت الصرة التي فيها الدنانير ، فبعثت إلى اليهودي فجاء ، فقلت : هل لك على صعب شيء . قال : رحم الله صعباً ، كان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هي له . قلت : لتخبرني قال : نعم أسلفته عشرة دنانير فنبذتها إليه فقال : هي والله بأعيانها قال : قلت : هذه واحدة . قلت هل حدث فيكم حدث بعد موته ؟ قالوا : نعم ، هرة لنا ماتت منذ أيام . قلت : هاتان ثنتان قلت : أين ابنة أخي قالوا : تلعب فأتيت بها فلمستها فإذا هي محمومة ، قلت : استوصوا بها خيراً ، فماتت لستة أيام .
319-
وقد رويت هذه القصة على وجه آخر وهو أشبه فروى ابن المبارك في كتاب الزهد عن أبي بكر عن عطية بن قيس عن عوف بن مالك الأشجعي وكان مواخياً لرجل من قيس يقال له : محكم ، ثم إن محكماً حضره الموت ، فأقبل عليه عوف فقال يا محكم إذا أنت وردت فارجع إلينا فأخبرنا بالذي صنع بك ، فقال محكم : إن كان يكون لمثلي فعلت ، فقبض محكم ، ثم ثوى عوف بعده عاما فرآه في منامه ، فقال : يا محكم ما صنعت وما صنع بك ؟ فقال له : وفينا أجورنا قال : كلكم قال : كلنا إلا خواص هلكوا في الشر الذين يشار إليهم بالأصابع ، والله لقد وفيت أجري كله حتى وفيت أجر هرة ضلت لأهلي قبل وفاتي بليلة . فأصبح عوف ، فغدا على امرأة محكم . فلما دخل قالت : مرحباً زوار صعب بعد محكم قال عوف هل رأيت محكماً منذ توفي قالت : نعم رأيته البارحة ونازعني ابنتي ليذهب بها معه ، فأخبرها عوف بالذي رأى وما ذكر عن الهرة التي ضلت فقالت : لا أعلم بذلك ، خدمي أعلم بذلك فدعت خدمها فسألتهم فأخبروها أنها ضلت لهم هرة قبل موت محكم بليلة . ومحكم هو ابن جثامة أخ لصعب والله أعلم .
320-
وروى هشام بن عمار عن صدقة بن خالد بن يزيد عن جابر عن عطاء الخرساني حدثتني ابنة جابر بن قيس بن شماس أن ثابتاً قتل يوم اليمامة وعليه درع له نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من المسلمين ، نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له إني أوصيك بوصية وإياك أن تقول هذا حلم فتضيعها ، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي و منزله في أقصى الناس وعند خباءه فرس يستل في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالداً فمره أن يبعث إلي درعي فيأخذها فإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق وفلان ، فأتى الرجل خالداً فبعث إلي الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته ولا نعلم أحداً أجيزت وصيته بعد ثابت رحمة الله عليه . قلت : مثل الرؤية الصادقة تورث ظناً قوياً أقوى من إخبار رجل أو رجلين فيجوز للوصي وغيره الاعتماد عليها في الباطن كما إذا علم الوصي بدين على الموصي غير ثابت في الظاهر فإن له قضاءه وإذا رأى الإمام إنفاذ ذلك ظاهراً كان فيه إقتداء بالصديق رضي الله عنه .
321-
قال ابن أبي الدنيا : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أبي عن أبي بكر بن عياش عن حفاركان في بني أسد قال : فمررت بالحفار فحدثني كما حدثني أبو بكر عنه قال : كنت أنا وشريك لي نتحارث في مقبرة بني أسد قال : فإني لليلة في المقابر إذ سمعت قائلاً يقول من قبر يا عبد الله قال مالك يا جابر قال غداً تأتينا آمناً قال : وما ينفعها لا تصل إلينا إن أبي قد غضب عليها وحلف أن لايصلي عليها ، فجعلا يكرران ذلك مراراً فجئت شريكي فجعل يسمع الصوت ولا يفهم الكلام ، فلقنته إياه ثم تفهمه ففهمه ، فلما كان من الغد جاءني رجل فقال : احفر لي ها هنا قبراً بين القبرين الذين سمعت منهما الكلام . قلت : اسم هذا جابر واسم هذا عبد الله ؟ قال : نعم . فأخبرته بما سمعت . قال : نعم ، قد كنت حلفت أن لا أصلي عليها ، لا جرم لأكفرن عن يميني ولأصلين عليها ولأترحمن عليها قال : ثم مر بي بعد ، وبيده عكاز وإداوة فقال : إني أريد الحج لمكان يميني تلك.
322-
وقال أبو الفرج بن الجوزي الحافظ : حدثني الشيخ أبو الحسن اليراديسي عن بعض العدول أن رجلاً رأى في منامه قاضي القضاة أبا الحسن الزينبي فقال له ما فعل الله بك قال : غفر لي ثم أنشد شعراً :
وإن امرءاً ينجو من النار بعدما تزود من أعمالها لسعيد
ثم قال : قل لفلان وفلان رجلين كانا وصيين له : لم تضيقون صدر فلانة وفلانة وفلانة ، فسمى ثلاث سراري له ، ولم أسمع بأسمائهن إلا في هذا المنام فلقي الرجل الوصيين فذكر لهما ذلك فقالا : سبحان الله ، لقد كنا البارحة نتحدث في المسجد في التضييق عليهن .
323-
كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدموني وإن كانت غير صالحة قالت [ لأهلها ] : يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمع الإنسان لصعق " وقد تقدم في حديث أنس وغيره " أن الميت إذا ضرب في قبره بمطاقي من حديد يصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين " وقد ورد في حديث مرفوع لا يصح : غير وصية لا يؤذن له بالكلام إلى يوم القيام .
فصل
وقد ذكرنا فيما تقدم من كلام الموتى ورد السلام عليهم ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم " ولا يستطيعون أن يجيبوا " لأن المراد نفي الإجابة المعهودة التي يسمعها الأحياء ، وقد ثبت تكلم الموتى
324-
من رواية أبي محمد الكوفي عن ابن المنكدر عن جابر مرفوعا ً. " من مات من غير وصية لا يؤذن له في الكلام إلى يوم القيامة " قالوا يا رسول الله ويتكلمون قبل يوم القيامة ؟ قال نعم ويزور بعضهم بعضاً " . قال أبو أحمد الحاكم : هذا حديث منكر وأبومحمد هذا رجل مجهول .
325-
وروى ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحسين حدثنا سعيد بن خالد بن يزيد الأنصاري عن رجل من أهل البصرة من كان يحفر القبور قال : حفرت قبراً ذات يوم ووضعت رأسي قريباً منه ، فأتاني امرأتان في منامي ، قالت إحداهما : يا عبد الله نشدتك الله إلا صرفت عنا هذه المرأة ولم تجاورنا بها . قال : فاستيقظت فزعاً ، فإذا بجنازة امرأة قد جيء بها فقلت : القبر وراءكم ، فصرفتهم إلى غير القبر فلما كان الليل إذا أنا بالمرأتين تقول لي إحداهما جزاك الله عني خيراً فلقد صرفت عنا شراً طويلاً . قلت : فما بال صاحبتك لا تكلمني كما كلمتني أنت ؟ قالت : إن هذه ماتت من غير وصية وحق لمن مات عن غير وصية أنه لا يتكلم إلى يوم القيامة .
الباب التاسع
في ذكر محل أصحاب أرواح الموتى في البرزخ
أما الأنبياء عليهم السلام فليس فيهم شك أن أرواحهم عند الله في أعلى عليين .
326-
وقد ثبت في الصحيح أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته " اللهم الرفيق الأعلى " وكررها حتى قبض .
327-
وقال رجل لابن مسعود : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين هو ؟ قال : في الجنة .
وأما الشهداء فأكثر العلماء على أنهم في الجنة وقد تكاثرت بذلك الأحاديث .
228-
ففي صحيح مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } قال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : " أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ]تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ] فاطلع إليهم ربهم إطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء تشتهين ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا . ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " .
329-
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا مأكلهم ومشربهم ومقلبهم قالوا : من يبلغ عنا إخواننا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا ينكلوا عن الحرب ولا يزهدوا في الجهاد قال : فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } .
330-
وخرج عبد الله بن منده وغيره ، حدثنا إسماعيل بن المختار عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أرواح الشهداء في طير خضر ترعى في رياض الجنة ، ثم يكون مأواها إلى قناديل معلقة بالعرش فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى : هل تعلمون كرامة أكرم من كرامة أكرمتوها ؟ فيقولون : لا إنا وددنا أنك رددت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى فنقتل في سبيلك" .
331-
وخرج أبو الشيخ الأصبهاني وغيره من طريق عبد الله بن ميمون عن عمه مصعب بن سليم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يبعث الله الشهداء من حواصل طير بيض كانوا في قناديل معلقة بالعرش " .
332-
وخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه من حديث عمرو بن دينار عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من شجر الجنة " كذلك رواه عمرو عن الزهري ، ورواه سائر أصحاب الزهري عنه ، ولم يذكروا الشهداء إنما ذكروا نسمة المؤمن ، وسيأتي حديثهم إن شاء الله . وقد ذكرنا فيما تقدم حديث عبادة بن عيسى بن عبد الرحمن عن الزهري عن عامر بن سعد عن إسماعيل بن طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد وهو منكر ، وأبو عبيدة هذا ضعيف جداً .
333-
وخرج ابن منده من طريق يحيى بن صالح عن سعيد بن سويد أنه سأل ابن شهاب عن أرواح المؤمنين قال : بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو ثم تروح إلى رياض الجنة تأتي ربها سبحانه كل يوم تسلم عليه .
وهذا أشبه . وكذا قال الضحاك وإبراهيم التيمي وغيرهما من السلف في أرواح الشهداء .
334-
وخرج ابن منده من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن حيان بن أبي جبلة قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشهداء إذا استشهدوا أنزل الله جسداً كأحسن جسد ثم يقال لروحه : ادخلي فيه فينظر إلى جسده الأول ما يفعل به ويتكلم فيظن أنهم يسمعون كلامه وينظر فيظن أنهم يرونه حتى تأتيه أزواجه - يعني الحور العين - فيذهبن به " .
335-
ويشهد لهذه النصوص أيضاً ما في الصحيحين عن جابر قال : قال رجل يوم أحد : أين أنا إن قتلت يا رسول الله ؟ قال : " في الجنة " فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل .
336-
وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : { قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض } وذكر قصة عمير بن الحمام .
337-
وفي صحيح البخاري عن المغيرة بن شعبة أنه قال أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة ربنا أنه من قتل صار إلى الجنة .
338-
وفيه أيضاً عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية : أليس قتالنا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ .
339-
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف " .
340-
وفي صحيح البخاري عن أنس قال : أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني ، فإن يكن في الجنة صبرت واحتسبت ، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع ؟ قال : " ويحك أو هبلت ؟ جنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس " .
341-
وخرج الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت جعفر ( بن أبي طالب ملكاً ) يطير (في الجنة ) مع الملائكة ( بجناحين ) " .
342-
وخرج الغمام احمد وأبو يعلى وابن أبي الدنيا من حديث ثابت عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الحسنة فكان فيما يقول : " هل رأى أحد منكم رؤيا " فإذا رأى الرجل الذي لا يعرفه الرؤيا سأل عنه فإن أخبر عنه بمعروف كان أعجب برؤيا . قال : فجاءت امرأة فقالت : يا رسول الله رأيت في المنام كأني خرجت فأدخلت الجنة فإذا أنا بفلان وفلان حتى عدت اثني عشر رجلاً ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم . فقال : اذهبوا بهم إلى نهر البرزخ فغمسوا فيه ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، وأتوا بكراسي من ذهب فأقعدوا عليها ، وجيء بصحفة من ذهب فيها بسر فأكلوا من بسره ما شاؤا فمايقبلونها من وجه إلا أكلوا من فاكهة ما شاؤا وأكلت معهم . قال : فجاء البشير من تلك السرية فقال : يا رسول الله كان كذا وكذا وأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلاً فقال : عليَّ بالمرأة فقال : قصي رؤياك على هذا " فقال الرجل : هو كما قالت ، أصيب فلان وفلان .
343-
وروى ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول : أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في ثمر الجنة .
344-
وروى معمر عن قتادة قال : بلغنا أن أرواح الشهداء في صورة طير بيض تأكل من ثمار الجنة.
345-
وروى أبو عاصم عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح الشهداء في أجواف طير كأنها الزرازير ، يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة .
346-
وروى ابن المبارك عن زائدة حدثنا حدثنا ميسرة الأشجعي عن عكرمة عن ابن عباس عن كعب قال : جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء . كذا رواه عطية عن ابن عباس قال : قلت لكعب إني أسألك عن شيء فإن كان في كتاب الله فحدثني ، وإن لم يكن في كتاب الله فلا تحدثني ، فذكر مسائل ، فقال كعب : ما سألتني عن شيء إلا وهو في كتاب الله ، قال : وأما جنة المأوى فإنها جنة فيها أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوى إلى قناديل الجنة .
347-
وروى أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج حدثنا عمرو بن عمر الأحموسى عن السفر بن نسير قال : سئل أبو الدرداء عن أرواح الشهداء . قال : هي طير خضر معلقة في قناديل تحت العرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها .
348-
وروى عن مجاهد أنه قال : ليس الشهداء في الجنة ، ولكنهم يرزقون منها.
349-
فروى آدم بن أبي إياس حدثنا ورقا عن بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } الآية قال : يقول : أحياء عند ربهم يرزقون من ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها .
350-
وروى ابن المبارك عن ابن جريج عن مجاهد قال : ليس هم في الجنة ، ولكن يأكلون من ثمارها ، ويجدون ريحها .
351-
وقد يستدل لقوله بما روى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشهداء على طريق بارق نهر الجنة فيه قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم بكرة وعشيا " .
352-
وخرجه ابن منده ولفظه " على بارق نهر في الجنة " وهذا يدل على أن النهر خارج من الجنة وابن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث هنا ، ولعل هذا في عموم الشهداء ، والذين في القناديل التي تحث العرش خواصهم : ولعل المراد بالشهداء هنا من هو شهيد من غير قتل في سبيل الله كالمطعون والمبطون والغريق وغيرهم ممن ورد النص بأنه شهيد .
فالحاديث السابقة كلها فيمن قتل في سبيل الله وبعضها صريح في ذلك ، وفي بعضها أن الآية نزلت في ذلك وهو قوله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } الآية نص في المقتول في سبيل الله .
وقد يطلق الشهيد على من حقق الإيمان وشهد بصحته بقوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } .
353-
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية يقول : يشهدون على أنفسهم بالإيمان بالله .
354-
وروى سفيان عن رجل عن مجاهد قال : كل مؤمن صديق وشهيد ثم قرأ { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } .
355-
وخرج ابن أبي حاتم من رواية رشدين بن سعد عن ابن عقيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : كلكم صديق وشهيد . قيل له : ما تقول يا أبا هريرة ؟ قال : إقرأ { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم }.
356-
وخرج ابن جرير من طريق إسماعيل بن يحيى التيمي عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مؤمنوا أمتي شهداء " ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم } ، وإسماعيل هذا ضعيف جداً . ويعضد هذا ما ورد في تفسير قوله تعالى { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } من شهادة هذه الأمة للأنبياء بتبليغ رسالاتهم ، وبكل حال فالأحاديث المتقدمة كلها في الشهيد المقتول في سبيل الله لا يحتمل غير ذلك ، وإنما النظر في حديث ابن إسحاق هذا والله أعلم .
وأمابقية المؤمنين سوى الشهداء فينقسمون إلى أهل تكليف ، وغير أهل تكليف فهذان قسمان : أحدهما غير أهل التكليف كأطفال المؤمنين فالجمهور على أنهم في الجنة ، وقد حكى الإمام أحمد على ذلك الإجماع . وقال في رواية جعفر بن محمد : ليس فيهم اختلاف يعني أنهم في الجنة . وقال في رواية الميموني لا أحد يشك أنهم في الجنة . وذكر الخلال من طريق حنبل عن أحمد قال : نحن نقر بأن الجنة قد خلقت ونؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان قال الله عز وجل { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } لآل فرعون ، وقال : أرواح ذراري المسلمين ، في أجواف طير خضر تسرح في الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم فيدل هذا أنهما خلقتا . وكذلك نص الشافعي على أن أطفال المسلمين في الجنة ، وجاء صريحاً عن السلف على أن أرواحهم في الجنة كما روي .
357-
الليث عن أبى قيس عن هذيل عن ابن مسعود قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاؤا وإن أرواح أولاد المسلمين في أجواف عصافبر تسرح بهم في الجنة حيث شاءت فتأوى إلى قناديل معلقة في العرش . خرجه ابن أبي حاتم ، ورواه الثوري والأعمش عن أبي قيس عن هذيل من قوله لم يذكر ابن مسعود .
358-
وخرج البيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس عن كعب نحوه . وخرج الخلال من طريق ليث عن أبي الزبير عن عبيد بن عمير قال : إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر يغذى به ولدان أهل الجنة حتى إنهم ليستنون إستنان البكارة .
359-
وخرج ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال : إن في الجنة شجرة يقال لها : طوبى . ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم الساعة فيبعث ابن أربعين سنة ويدل على صحة ذلك ما في صحيح مسلم قال .
360-
لما توفي إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة " وخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث البراء بن عازب .
361-
وروى سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر الجنة يكفلهم أبوهم إبراهيم عليه السلام ". وكذا رواه علي بن عثمان الأحفى عن حماد بن سلمة عن خيثم عن مكحول إلا أنه قال : عصافير خضر في الجنة وهذا مرسل ولفظه يشبه لفظ الحديث الذي احتج به الإمام أحمد على خلق الجنة كما تقدم .
362-
وقد روي متصلاً من وجه آخر من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عطاء بن فروة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذراري المؤمين يكفلهم [ أبوهم ] إبراهيم في الجنة " خرجه ابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد . وخرجه الإمام أحمد عن موسى بن داود عن ابن ثوبان إلا أنه شك في رفعه , ولكن رواه عن واحد عن ثوبان ولم يشك في رفعه .
363-
وروي من وجه آخر من رواية مؤمل عن سفيان عن ابن الأصبهاني عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولاد المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة عليهما السلام فإذا كان يوم القيامة رفعوا إلى آبائهم " وكذا رواه محمد بن عبد الله بن نمير عن وكيع عن سفيان مرفوعاً ، ورواه ابن مهدي وأبو نعيم عن سفيان موقوفاً قال الدارقطني : والموقوف أشبه .
364-
ومما يستدل لهذا أيضاً ما خرجه البخاري عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبرائيل وميكائيل أتيا به ، فانطلقا به ، وذكر حديثاًً طويلاً وفيه " فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ وصبيان وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني داراً لم أر قط أحسن منها فيها رجال وشيوخ و شباب ونساء وصبيان ، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل فيها شيوخ وشباب " وذكر الحديث " وفيه قالا : والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم [ عليه السلام ] والصبيان حوله فأولاد الناس " وفي رواية " فكل مولود مات على الفطرة " وفي رواية " ولد على الفطرة " والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وأما هذه الدارفدار الشهداء .
365-
وروى أبو خالد عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة وفي حديثه " قلت فالروضة قال : أولئك الأطفال وكل بهم إبراهيم يربيهم إلى يوم القيامة " .
366-
وخرج الطبراني والحاكم من حديث سليم بن عامر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه قال : " بينا أنا نائم انطلق بي إلى جبل وعر " فذكر الحديث وفيه " ثم انطلق بي حتى أشرفت على الغلمان يلعبون بين نهرين قلت : من هؤلاء ؟ قال ذراري المؤمنين يحضنهم أبوهم إبراهيم عليه السلام ، ثم انطلق بي حتى أشرفت على ثلاثة نفر قلت : من هؤلاء ؟ قال إبراهيم وموسى عليهم السلام وهم ينتظرونك " .
وذهبت طائفة إلى أنه يشهد لأطفال المؤمنين عموماً أنهم في الجنة ، ولا يشهد لآحادهم وهو قول ابن راهاويه نقله عنه إسحاق بن منصور وحرب في مسائلهما ولعل هذا يرجع إلى الطفل المعين لا يشهد له حينئذ أنه من أطفال المؤمنين ، فيكون الوقف في آحادهم كالوقف في إيمان آبائهم ، وحكى ابن عبد البر عن طائفة من السلف القول بالوقف في أطفال المؤمنين وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق وهو بعيد جداً ولعله أخذ ذلك من عمومات كلام لهم ، وإن أرادوا بها أطفال المشركين ، وكذلك اختار القول بالوقف طائفة منهم الأثرم والبيهقي ، وذكر أن ابن عباس رجع إليه ، والإمام أحمد ذكر أن ابن عباس إنما قال ذلك في أطفال المشركين وإنما أخذه البيهقي من لفظ روى عنه كما أنه .
367-
روى في بعض ألفاظ حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأطفال ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " ولكن الحفاظ الثقات ذكروا أنه سئل عن أطفال المشركين .
368-
واستدل القائل بالوقف بما أخرجه مسلم من حديث فضيل بن عمرو عن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : توفي صبي فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً " .
369-
وخرجه مسلم أيضاً من طريق طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنة صبي من الأنصار فقلت : يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه . قال : " أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " وقد ضعف أحمد هذا الحديث من أجل طلحة بن يحيى وقال : قد روى مناكير وذكر له الحديث ، وقال ابن معين فيه ، ليس بالقوى ، وأما رواية فضيل بن عمرو له عن عائشة فقال أحمد : ما أراه سمعه إلا من طلحة بن يحيى يعني أنه أخذه عنه ودلسه حيث رواه عن عائشة بنت طلحة .
370-
وذكر العقيلي أنه لا يحفظ إلا من حديث طلحة ويعارض هذا ما خرجه
مسلم من حديث أبي السليل عن أبي حسان قال : قلت لأبي هريرة إنه [ قد ] مات لي ابنان فما أنت بمحدثي عن رسول اللله صلى الله عليه وسلم تطيب به أنفسنا عن موتانا قال : نعم . صغارهم دعاميص أهل الجنة يتلقى أحدهم أباه - أو قال أبويه - فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ [ أنا ] بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى أو قال فلا ينتهي حتى يدخله الله [ وأباه ] الجنة " .
371-
وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " ولهذا قال الإمام أحمد : هو يرجى لأبويه فكيف يشك فيه يعني أن يرجى لأبويه دخول الجنة بسببه ولعل النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن الشهادة لأطفال المسلمين بالجنة قبل أن يطلع على ذلك لأن الشهادة على ذلك تحتاج إلى علم به ، ثم اطلع على ذلك فأخبره والله اعلم .
القسم الثاني : أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء وقد اختلف فيهم العلماء قديماً وحديثاً والمنصوص عن 372 الإمام أحمد : أن أرواح المؤمنين في الجنة ذكره الخلال في كتاب السنة عن غير واحد عن حنبل قال : سمعت أبا عبد الله يقول : أرواح المؤمنين في الجنة ، وقال حنبل في موضع آخر : هي أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار والأبدان في الدنيا يعذب الله من يشاء ويرحم من يشاء قال أبو عبد الله : ولا نقول هما يفنيان بل هما على علم الله باقيتان يبلغ الله فيهما عمله نسأل الله التثبيت وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وقوله : ولا نقول : هما يفنيان يعني الجنة والنار فإن في أول الكلام عن حنبل أن أبا عبد الله حكى قصة ضرار وحكايته اختلاف العلماء في خلق الجنة والنار ، وأن القاضي أهدر دم ضرار ولذلك استخفى إلى أن مات وأن أبا عبد الله قال : هذا كفر يعني القول بأنهما يخلقان بعد ، قال حنبل : وسألت أبا عبد الله عمن قال إن كانتا خلقتا فإنهما إلى فناء ؛ ثم ذكر هذا الجواب من أحمد ولا يصح أن يقال : إن أحمد إنما نفى الفناء عنهما معاً فيصدق ذلك أن تكون الجنة وحدها لا تفنى لأن ما بعد هذا يبطل هذا التأويل وهو قوله : هما على علم الله باقيتان فإن هذا ينفي ذلك الاحتمال والتوهم ويثبت البقاء لهما معاً وهذا يقول كما يقول زيد وعمر ، فهذا قد يحتمل أن يراد نفي العلم عنهما جميعاً دون أحدهما ، فإذا قلت بعد ذلك بل هما جاهلان ، زال ذلك الإحتمال ، وأثبت الجهل لهما جميعاً ، وأيضاً فلا يقع استعمال نفي عن شيئين والمراد نفي اجتماعهما خاصة إلا مع ما يبين ذلك في سياق الكلام وعن لفظ يدل عليه فأما مع الإطلاق فلا يقع ذلك بل لا يجوز استعماله مع الإيهام كما لا يقال الآلة والنار لا يبقيان ، وكما لا يقال الخالق الله المخلوق وحده يفنى ، ولا يقال الدنيا والآخرة لا تفنيان ويراد بها أن الدنيا وحدها تفنى ولا محمد ولا مسيلمة لا يصدقان ولا يكذبان ، والمراد به صدق محمد وحده وكذب مسيلمة وحده فإن هذا كله استعمال قبيح ممنوع ولا يعهد مثله في كلام أحد يعتد به ، وقول أحمد بعد هذا : نسأل الله التثبيت أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا يدل على أن القول بخلاف ذلك عنده من الضلال والزيغ وقد خرج بهذا فيما نقله عنه حرب قال حرب في مسائله ، هذا مذهب أئمة أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم ممن أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام فمن خالف شيء من هذا المذهب فيها أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم الإيمان قول وعمل وذكر العقيدة ومن جملتها قال : لقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله ثم خلق الخلق لهما لا يفنيان ، لا يفنى ما فيهما أبداً فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } وبنحو هذا فقل له كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة ، فقوله في آخر كلامه خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك يبطل من أول الكلام على أن المراد به لا يفنى مجموعهما ، وقد نقل هذا الكلام الذي نقله حرب كله عن أحمد صريحاً كذلك نقله عنه أبو العباس أحمد بن جعفر الأصطخري أنه قال : هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز وأهل الشام وغيرهم فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق فذكر العقيدة كلها ، وقد خلقت الجنة وما فيها وخلقت النار وما فيها خلقهما الله وخلق الخلق لهما فلا يفنيان ولا يفنى ما فيهما أبداً فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } ونحو هذا من متشابه القرآن فقل له : كل شيء مما كتب الله عليه الفناء و الهلاك هالك والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك ، وهما من الآخرة لا من الدنيا وذكر بقية العقيدة ، وقد رويت هذه العقيدة عن الإمام أحمد من وجه آخر من طريق أحمد بن وهب القرشي عنه ، والمقصود هنا قول أحمد : أرواح المؤمنين في الجنة وأرواح الكفار في النار .
وقد حكى القاضي أبو يعلى في كتاب " المعتمد " ومن اتبعه من الأصحاب هذا الكلام عن عبد الله بن أحمد عن أبيه ولم ينقله عبد الله إنما نقله حنبل . وأما ما نقله عبد الله عن أبيه فقال الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن أرواح الموتى أتكون في أفنية قبورهم أم في حواصل طير أم تموت كما تموت الأجساد ؟ قال :
373-
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نسمة المؤمن إذا مات طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده فيبعثه الله "
374-
وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر كالزرازير ثم يتعارفون فيها ويرزقون من ثمارها ، وقال بعض الناس أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تأوي إلى قناديل في الجنة معلقة في العرش انتهى . وهذا الكلام أيضاً يدل على أن أرواح المؤمنين عند الله في الجنة إلا أنه ذكر في جوابه الأحاديث الدالة على ذلك المرفوعة والموقوفه ولم يذكر سوى ذلك ففي رواية حنبل جزم بأن أرواح المؤمنين في الجنة وفي رواية عبد الله ذكر الأدلة على ذلك .
375-
فأما الحديث المرفوع الذي ذكره من رواية مالك عن ابن شهاب أن عبد الرحمن بن كعب أخبره أن أباه كعب بن مالك كان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده " كذا رواه مالك في الموطأ ورواه عن مالك جماعة منهم الشافعي ورواه الإمام أحمد في مسنده عن الشافعي وخرجه النسائي من طريق مالك أيضاً وخرجه مالك من طريق الحارث بن فضيل عن الزهري بهذا الإسناد ، وكذا رواه عن الزهري يونس والزبيدي والأوزاعي وإسحاق ورواه شعيب وابن أخي الزهري وصالح بن كيسان عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن جده كعب ، وقال صالح في حديثه : أنه بلغه أن كعباً كان يحدث وقال شعيب في حديثه إن كعباً كان يحدث فهو على رواية صالح ومن وافقه منقطع ، وذكر محمد بن يحيى الذهلي أن ذلك هو المحفوظ وخالفه ابن عبد البر في ذلك ورجح رواية مالك ومن وافقه ، وقد روي - يعني حديث كعب - من وجوه متعدده .
376-
فروى حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديث القبر بطوله في حق المؤمن قال : " ويعاد الجسد إلى ما بدىء منه وتجعل روحه في نسيم طير يعلق في شجر الجنة ". خرجه الطبراني وغيره ، وخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق معتمر عن محمد بن عمرو به ولفظه ، وتجعل نسمته في النسيم الطيب وهو طير يعلق في الجنة ، وقد سبق أن غيرهما رواه عن محمد بن عمرو فوقفه على أبي هريرة .
377-
وقد تقدم حديث أم هانىء الأنصارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكون النسم طائر تعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها " .
378-
وخرج ابن منده من رواية موسى بن عببيدة الربذي عن عبد الله بن يزيد عن أم بشر بنت المعرور قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر ترعى في الجنة تأكل من ثمارها وتشرب من مائها وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فيقولون : ربنا ألحق بنا إخواننا وآتنا ما وعدتنا ، وإن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى حجر من النار يقولون : ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا " . وموسى بن عبيدة شيخ صالح شغلته العبادة عن حفظ الحديث فكثرت المناكير في حديثه .
379-
وخرج ابن منده أيضاً من رواية معاوية بن صالح عن حمزة بن حبيب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنين فقال : " في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت " قالوا : يا رسول الله وأرواح الكفار ؟ قال " محبوسة في سجين " وهذا مرسل .
380-
وخرج أيضاً من رواية عيسى بن موسى عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرواح المؤمنين كالزرازير تأكل من ثمر الجنة " ثم قال ابن منده رواه جماعة عن الثوري موقوفاً ، يعني علي عبد الله بن عمرو والصواب وقفه .
381-
وقد سبق أن الإمام ذكره في رواية ابنه عبد الله موقوفاً وكذا رواه وكيع عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزرازير يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها . أخرجه الخلال . وخرج أيضاً من حديث أبي هشام عن أبي إسحاق عن الأحوص عن عبد الله بن مسعود فذكر احتضار المؤمن وأن روحه تعاد إلى جسده عند سؤاله في القبر ثم ترفع روحه فتجعل في أعلا عليين . ثم تلا عبد الله الآية { إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون . كتاب مرقوم } قال السماء السابعة وأما الكفار فذكر الكلام وتلا { إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين } .
قال : الأرض ، وروي مثل هذا المعنى عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ، وذكره ابن عبد البر . وروى سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول : سجين هي الأرض السفلى فيها أرواح الكفار .
382-
وروى ابن المبارك عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن منصور بن أبي منصور حدثه قال سألت عبد الله بن عمرو عن أرواح المسلمين حين يموتون قال : ما تقولون يا جهال العراق ؟ قلت : لا أدري . قال : فإنها صور طير بيض في ظل العرش وأرواح الكفار في الأرض السابعة .
383-
وروي أيضاً عن كعب من رواية الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال : كنا جلوساً إلى كعب فجاء ابن عباس فقال : يا كعب كل ما في القرآن عرفت غير أربعة أشياء فأخبرني عنهن . فسأله عن سجين وعليين . فقال كعب : أما عليون فالسماء السابعة فيها أرواح المؤمنين ، وأما سجين فالأرض السابعة فيها أرواح الكفار تحت خدّ إبليس . وقد ثبت في الأدلة أن الجنة فوق السماء السابعة ، وقد ذكرنا ذلك في كتاب " صفة النار " متوفي .
384-
وروى أبو نعيم من طريق الحكم بن أبان قال : نزل بي ضيف من أهل صنعاء فقال : سمعت وهب بن منبه يقول : إن لله في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين ، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح فيسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم .
385-
وخرج ابن منده من طريق سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام لقي أحدهما صاحبه فقال : إن مت قبلي فحدثني بما لقيت وإن مت قبلك حدثتك بما لقيت . قال : وكيف يكون ذلك ؟ قال : أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت . وخرجه ابن أبي الدنيا من طريق جرير بن يحيى .
386-
وخرج أيضاً من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن منصور بن أبي منصور أنه سأل عبدالله بن عمرو عن أرواح المؤمنين إذا ماتوا أين هي ؟ قال : هي صور طير بيض في ظل العرش .
387-
وروى ابن أبي ليث عن أبي قيس عن هذيل عن ابن مسعود أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } قال : هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة . خرجهما ابن أبي الدنيا.
388-
وخرج اللالكائي من رواية عاصم عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري قال : تخرج روح المؤمن وهي أطيب من المسك فتعرج به الملائكة حتى تأتي ربه وله برهان مثل الشمس وروح الكافر أنتن من الجيفة وهو بوادي حضر موت في أسفل الثرى من سبع أرضين .
وقد يستدل للقول بأن أرواح المؤمنين في الجنة , وأرواح الكفار في النار من القرآن بأدلة منها قوله تعالى : { فلولا إذا بلغت الحلقوم . وأنتم حينئذ تنظرون } إلى قوله : { فأما إن كان من المقربين . فروح وريحان وجنة نعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين . فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم . وتصلية جحيم } هو دخول النار مع إحراقها وإنضاجها فجعل هذا كله متعقباً للاحتضار والموت وكذلك قوله تعالى في قصة المؤمنين في سورة يس : { قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون . بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } وإنما قال هذا بعد ما قتلوه ورأى ما أعد الله له { يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى ربك راضية مرضية } على تأويل من تأول ذلك عند الاحتضار ، وكذلك قوله تعالى : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين * قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار } الآية ونظير هذه الآية قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } الآية .
389-
ومما يستدل به أيضاً لذلك ما رواه مجالد عن الشعبي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن خديجة قال : " أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب لا لغو فيه ولا نصب " خرجه البزار .
390-
وخرج الطبراني بإسناد منقطع عن فاطمة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : أين أمنا خديجة ؟ قال : " في بيت من قصب بين مريم وآسية امرأة فرعون " قالت : ممن هذا القصب ؟ قال : " من القصب المنظوم بالدرر واللؤلؤ والياقوت " .
391-
وخرج أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم الأسلمي الذي اعترف عنده بالزنا قال : " والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .
فصل
وإنما تدخل أرواح المؤمنين والشهداء الجنة إذا لم يمنع من ذلك مانع من كبائر تستجوب العقوبة أو حقوق آدميين حتى يبرأ منها
392-
ففي الصحيحين عن أبى هريرة أن مدعماً قتل يوم خيبر قال الناس : هنيئاً له الجنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بلى والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ً" .
393-
وعن سمرة بن جندب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ها هنا أحد من بني فلان " ثلاثاً فلم يجبه أحد ثم أجابه رجل فقال : " إن فلاناً الذي توفي احتبس عن الجنة من أجل الدَّين الذي عليه فافتكوه أو فافدوه ، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله " خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بألفاظ مختلفة . وخرج البزار من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وفي حديثه قال : " إن صاحبكم محبوس على باب الجنة " أحسبه قال بدين .
394-
وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من فارق الروح و الجسد وهو بريء من ثلاث ، دخل الجنة من الكبر والغلول والدين " .
395-
وخرج الطبراني من حديث أنس قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يصلي عليه فقال : " على صاحبكم دين ؟ " فقالوا : نعم . قال : فما ينفعكم أن أصلي على رجل مرتهن في قبره لا تصعد روحه إلى السماء ، ولو ضمن رجل دينه قمت فصليت عليه فإن صلاتي تنفعه " وفي المعنى أحاديث متعددة .
396-
وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت من طريق سيار بن حسن قال خرج أبي وعبد الواحد بن زيد يريدان الغزو فهجموا على ركية عميقة واسعة فأدلوا حبالهم بقدر فإذا القدر قد وقعت في الركية قال : فقرنوا حبال الرفقة بعضها ببعض ، ثم دخل أحدهما إلى الركي فلما صار ببعضها إذا هو بهمهمة في الركي فرجع فصعد فقال : أتسمع ما أسمع ؟ قال : نعم , فناولني العمود فأخذ العمود فدخل في الركية فإذا هو برجل جالس على ألواح وتحته الماء . فقال : أجنيٌّ ؟ قال : بل إنسي . قال : ما أنت قال : أنا رجل من أهل أنطاكية وإني مت فحبسني ربي هنا بدين علي وإن ولدي بإنطاكية لا يذكروني ولا يقضون عني فخرج الذي كان في الركية فقال لصاحبه غزوة بعد غزوة فدع أصحابنا يذهبون فساروا إلى أنطاكية فسألوا عن الرجل وعن بنيه فقالوا : نعم إنه لأبونا وقد بعنا ضيعة لنا فامشوا معنا حتى نقضي عنه دينه . قال فذهبوا معهم حتى قضوا ذلك الدين ثم رجعوا من أنطاكية حتى أتوا موضع الركية ولا يشكون أنها ثم ، فلم يكن ركية ولا شيء فأمسوا فباتوا هناك فإذا الرجل قد أتاهم في منامهم وقال : جزاكم الله خيراً فإن الله حولني إلى مكان كذا وكذا من الجنة حيث قضي ديني ، وروى في كتاب المنامات حدثني زكريا بن الحارث النظري قال : رؤي محمد بن عباد في النوم فقيل : ما فعل الله بك ؟ فقال : لولا ديني دخلت الجنة . وقالت طائفة : الأرواح في الأرض ، ثم اختلفوا فقالت فرقه منهم : الأرواح تستقر على أفنية القبور وهذا القول هو الذي ذكره عبد الله بن الإمام أحمد في سؤاله المتقدم . وحكي ابن حزم عن عامة أصحاب الحديث . وقال ابن عبد البر : كان أبو وضاح يذهب إليه ويحتج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى المقبرة فقال " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " فهذا يدل على أن الأرواح بأفنية القبور . ورجح ابن عبد البر أن أرواح الشهداء في الجنة وأرواح غيرهم على أفنية القبور تسرح حيث شاءت .
397-
وذكر عن مالك أنه قال : بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت .
398-
وعن مجاهد قال : الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا يفارقه ذلك .
399-
واستدل هو وغيره بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده في الغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال : هذا مقعدك إلى يوم القيامة " وهذا يدل على أن الأرواح ليست في الجنة وإنما تعرض عليها بكرة وعشياً .
وكذا ذكره ابن عطية وغيره ، ولا حجة لهم فيه لوجهين : أحدهما : أنه يحتمل أن يكون العرض بكرة وعشياً على الروح المتصل بالبدن والروح وحدها في الجنة وتكون البشارة والتخويف للجسد في هذين الوقتين باتصال الروح به . وأما الروح أبداً في تنعم أو عذاب . والثاني أن الذي يعرض بالغداة والعشي هو مسكن ابن آدم الذي يستقر فيه في الجنة أو النار وليست الأرواح مستقرة فيه مدة البرزخ وإن كانت في الجنة أو النار .
400-
ولهذا جاء في حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن إذا فتح له في قبره باب إلى الجنة وقيل له : هذا منزلك . قال : رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي " . وأما السلام على أهل القبور فلا يدل على استقرار أرواحهم على أفنية قبورهم فإنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين ولكن مع ذلك لها اتصال سريع في الجسد ولا يعلم كنه ذلك وكيفيته على الحقيقة إلاالله عز وجل . ويشهد ذلك الأحاديث المرفوعة والموقوفة على أصحابه ، ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص في أن النائم يعرج بروحه إلى العرش مع تعلقها ببدنه وسرعة عودها إليه عند استيقاظه ، فأرواح الموتى المتجردة عن أبدانهم أولى بعروجها إلى السماء وعودها إلى القبر في مثل تلك السرعة والله أعلم .
401-
وخرج ابن منده من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب ، أن سلمان قال لعبد الله بن سلام : إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت وإن أرواح الكفار في سجين وعلي بن زيد ليس بالحافظ خالفه يحيى بن سعيد الأنصاري مع عظمته وجلاله وحفظه .
402-
فروى عن سعيد بن المسيب . قال فيه : إن أرواح المؤمنين تذهب في الجنة حيث شاءت كما سبق ذكره . وقد تقدم عن مالك أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت ن وخرجه ابن أبي الدنيا عن خالد بن خراش قال : سمعت مالكاً يقول ذلك .
403-
وخرج أيضاً عن حسين بن علي العجلي حدثنا أبو نعيم حدثنا شريك عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو وقال مثل المؤمن حين تخرج نفسه أو قال روحه مثل رجل كان في سجن فأخرج منه فهو ينفسخ في الأرض ويتقلب فيها .
404-
ومما استدل به على أن الأرواح في الأرض حديث البراء بن عازب الذي تقدم سياق بعضه وفيه صفة قبض روح المؤمن " فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب سبحانه وتعالى : ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد إلى القبر " وذكر الحديث ، وقال في روح الكافر " فيصعد بها إلى السماء فتغلق دونه فيقول الرب سبحانه وتعالى : ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى " وفي رواية " ويقول الله : ردوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } وهذا يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها ونزولها إلى الأرض في الجنة لا سيما الشهداء .
405-
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في صفة قبض روح المؤمن قال : " ثم يصعد به إلى ربه عز وجل فيقول ردوه إلى آخر الأجلين " وقال مثله في الكافر وقال فيه رد النبي صلى الله عليه وسلم ربطة على أنفه يعني لما ذكر نتن ريحه . وهذا يشهد برفع الحديث كله .
406-
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث قسامة بن زهير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر االريحان فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين وتقول : أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية مرضياً عنك إلى رضوان الله وكرامته ، فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك ، وطويت عليها الحريرة ، وبعث بها إلى عليين ، وإن الكافر إذا احتضر أتته الملائكة بمسح فيه جمرة فتنزع روحه انتزاعاً شديداً ويقال : أيتها النفس الخبيثة اخرجي ساخطة ومسخوطاً عليك إلى هوان الله وعذابه ، فإذا أخرجت روحه وضعت على تلك الجمرة فإن لها نشيشاً ويوى عليها المسح ويذهب بها على سجين " وخرجه النسائي وغيره من حديث قتادة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه مخالف لما قله ، وذكر في روح المؤمن حين ينتهون بها إلى السماء العليا ، وقال في روح الكافر حين ينتهون بها إلى الأرض السفلى .
وقد ذكرنا فيما تقدم عن ابن مسعود أن الروح بعد االسؤال في القبر ترفع إلى عليين وتلا قوله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } .
407-
وقالت فرقة : تجتمع في موضع من الأرض كما روى همام بن يحيى السعودي عن قتادة قال : حدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال إن أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية ، وأما أرواح االكفار فتجتمع بسبخة بحضر موت يقال له برهوت خرجه ابن منده ، ورواه هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد بن المسيب من قوله لم يذكر عبد الله بن عمرو ، خرجه من طريق ابن أبي الدنيا وقد تبين أن قتادة لم يسمعه من سعيد إنما بلغه ولم يدر عمن أخذه .
408-
وخرج ابن منده من طريق فرات الفزاري عن أبي الطفيل عن علي قال : شر واد بئر في الأحقاف برهوت بحضر موت ترده أرواح الكفار .
409-
قال : رواه حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن يوسف عن ابن مهران عن ابن عباس عن علي قال : أبغض بقعة في الأرض واد بحضرموت يقال له : برهوت فيه أرواح الكفار وفيه بئر ماءه في النار أسود كأنه قيح تأوي إليه الهوام . وروى بإسناده عن شهر بن حوشب إن كعباً رأى عبد الله بن عمرو وقد تكالب الناس عليه يسألونه فقال رجل لرجل : سله أين أرواح المؤمنين بالجابية وأرواح الكفار ببرهوت وبإسناده عن سفيان عن أبان بن تغلب قال : قال رجل : بت فيه يعني وادي برهوت كأنما حشدت فيه أرواح الكفار وهم يقولون يا دومه فحدثنا رجل من أهل الكتاب هو الملك الذي على أرواح الكفار . قال سفيان : وسألنا الحضرميين فقالوا : لا يستطيع أن يبيت فيه أحد بالليل . وقال ابن قتيبية في كتابه غريب الحديث ذكر الأصمعي عن رجل من أهل برهوت يعني البلد الذي فيه هذا البئر قال تجد الرائحة المنتنة الفظيعة جداً ثم تمكث فيأتينا الخبر بأن عظيماً من عظماء الكفار قد مات فنرى أن تلك الرائحة منه . قال وقال ابن عيينة : أخبرني رجل أنه أمسى ببرهوت فكأن فيه أصوات الحاج . قال : وسألت أهل حضرموت فقال : لا يستطيع أحدنا أن يمسي فيه .
411-
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن عمر بن سليمان قال مات رجل من اليهود وعنده وديعة لمسلم ، وكان لليهودي ابن مسلم فلم يعرف موضع الوديعة فأخبر شعيباً الجبائي فقال أئت برهوت فإن دونه عين بتسقيب فإذا جئت في يوم السبت فامش عليها حتى تأتيعيناً هناك فادع أباك فإنه يجيبك فاسأله عما تريد ففعل ذلك الرجل ومضى حتى أتى العين فدعا أباه مرتين أو ثلاثاً فأجابه . فقال أين وديعة فلان ؟ فقال تحت إسكفة الباب فادفعها إليه .

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اندكس سو بند اضافة

 الرابط